الموسوعة الإعلامية




قيس الوالي

على قاعة المركز الثقافي العراقي في لندن أقام الفنان العراقي المغترب في فرنســا    ( عباس باني حسن) معرضه الشخصي وقد تضمن مجموعة من أعماله الخزفية واللوحات المرسومة ، وعند ملاحقة خطابه البصري لا يمكن حصر تجربته العيانية  بمعزل عن كشوفاته النظرية الذي أدرك منذ زمن طويل أهميتها وأحاط بها منجزه من خلال البحث في فنون العراق القديم بما يقدمه له من اشارات عن المعاني الكامنة في جوف التأريخ ومفهومات الموت والولادة والحب والخلود التي ضمنها بين طيات منحوتاته أو خزفياته نزوعا نحو المسلات العراقية وأشكالها والتعالق معها في لوحاته التي تنتمي الى جنس النحت الخزفي وبصيغ حداثية ومعاصرة تؤسس مفهومها الجديد على أساس الشكل والمعنى ودلالته الكامنة في عمق المنجز الرافديني الذي لم يتخل عنه وأستمر في البحث فيه طويلا من أجل الوصول الى الحقائق التي يعبرعنها فن الأسلاف حتى وأن تربت ذائقته على توصلات الغير عندما درس في ( ايطاليا وبلغاريا ومن ثم فرنسا ) وظلت هواجسه معلقة بفن ذلك السلف المبدع ، حيث حاول الخروج عن الأطر التقليدية للأشكال الخزفية التي تعتمد في هيئاتها على المربع والمستطيل والدائرة ،  واتجه نحو شكل المسلات الاسطوانية  ذات الامتدادات الطولية التي برزت كعلامة مهيمنة في أعماله تلك . 

    بيد أنه بدأ بعتبات أولى في محطات الرسم يعرف من خلالها المتلقي بنشوء تطورية الشكل الفني الذي قدمه في مجموعته الخزفية دون الخروج عن الموضوع الرئيس الذي أعتمده في هذا المعرض أو تجاربه السابقة ، اذ كان جسد المرأة حاضرا في مجمل خطابه بوصفه علامة مهيمنة تنطلق منها جميع الرؤى التي تتمحور حولها ، فعتبته الأولى تخطيطات لوجه امرآه تصطف بجانب بورتريه لأمرأة أخرى تحمل ألوان الأشكال الخزفية الناتجة من أكاسيد الحديد الحمراء أو ما يجاورها . وبعد العتبة  الأولى التي يؤسس لها يبدأ بضخ مفردات خطابه على هيئة رؤوس لنساء بذات الملامح العراقية كجزء من الاحتفاء بذاكرته الصورية عن موروثه البيئي الذي يسكنه واعادة الأهمية للأستعارات الميثولوجية العراقية التي تحتفي بجسد المرأة أو رمزها وتصل به الى مستوى الآلهة في فترة من أهم حضوره الرمزي .

ومن خلال هذا الفهم يشيد منحوتاته الخزفية التي يعتمد فيها على الامتداد الطولي الذي يشبه المسلات القديمه  أو الرقم الطينية المفخورة بالنار ، ولكنه يوشحها بجسد المرأة أو جذعها المقطوع أو الوجوه ذات السحنة العراقية وكأنه يتخيل أن تلك النسوة يتجولن في شوارع مدنه المنسية والبعيدة بشعورهن الطويلة المنسدلة أو الأنوف الطولية المعبرة والدالة بألوان مطفأة كي يطمأن على أنها تقترب من صيغها الواقعية وهذه مشاكسة جمالية لمفهوم الخزف وطرائق انتاجه ، وبخلاف أشكاله الرئيسة فأنه يستعير مفردات زخرفية عبارة عن مجموعة أغصان نباتية ملتفة بشكل حلزوني تذكرنا بالهوية الشرقية للفن القائم على التدوير ، أغصان تخرج من رحم المرأة التي تعتلي المسلة أو الرقيم وتتفرع بأتجاهات متعددة اشارة الى الولادة والأبدية والخلود المستمر أو هي مومياءات أراد أن يخلد بها ذلك الجسد والوجه الماثل داخله طويلا  . وكجزء من المغايرة المستمرة على كل مستويات تشييد العمل الفني فأن أجساده النسائية تتدثر بنسيج زخرفي أزرق اللون كأنه تعويذه عن الحسد ، بوصفها جزءا من اشتغالاته الميثولوجية التي تعين عمله وتدفعه الى مناطق التأويل . ولم يكتف بهذا ، اذ أنه يفارق السياق الذي ينتهجه المزخرف حيث شاع أن تكون الأرضية باللون الأزرق الغامق وتكون الزخارف  باللون الأصفر أو الأوكر الفاتح ، ولكن ( باني ) حتى في هذه التفصيلة يفارق السائد حيث جاءت زخارفه البانية للشكل باللون الأزرق الغامق على الأرضية الفاتحة ، كما أنه من المثير أن ينزع نحو استخدام المثلث بشكل مبالغ فيه رامزا بذلك للثبات المضموني الذي ينتهجه من خلال العودة لموروثاته الميثولوجية أو الجمالية الشرقية ، ولذلك فأن الاكثار من استخدامه يعني الأحتفاء به فيظهر فوق رؤوس نسائه أو هو شكل زخرفي أو يأتي على هيئة مداخل لأكواخه التي رسمها التي تذكرنا دائما بمضيف القصب أو العقود العباسية المدببة وفي كلتا الحالتين تنم عن استعارات من أحضان التاريخ الشرقي الذي يمزجه بأطر الحداثة الأوربية ليصبح أكثر قبولا بالنسبة للآخر . 

    أن مجمل ما يمكن الحديث عنه في تجربة الفنان ( عباس باني ) هي التكاملية التي يضفيها تنوع الأجناس الفنية على عمله الخزفي من حيث أجناس ( الرسم والنحت والخزف ) وتداخلها في بنية موحدة ومعبرة عن جوهر اشتغاله البصري مقترنا ذلك بالدلالة المنفتحة على التراث الجمالي العراقي والشرقي ضمن التعامل مع مفهومات ماهوية تناقش الجواهر الكامنة في الطاقة الرمزية للشكل واعتماد المفارقة أساسا في التشكل الموضوعي للعمل الخزفي ليقدم تجربة جديدة من خلال الفوارق النوعية التي تم الحديث عنها وتضع تجربته في أحضان المسار الأبداعي الخلاق .


@*@model web.ViewModels.NavMenuVM*@